ما الشعر؟
أرجوك -يا صديقي- لا تغضب مني.. أعرف أن أسئلتي قد زادت.. ولكن هذه هي أفضل وسيلة للتعلم (لي ولك)، وهي أن نفكر.. سؤالي الآن: ما الكلام؟ الكلام هو أصوات.. أليس كذلك؟ إذن عندما يتكرر صوت ما على مسافة ما، فإننا سنكون أمام إيقاع.
هذا هو الذي يجعلنا جميعا نلتفت إلى القافية (الأصوات المتكررة في نهاية كل بيت).. إنها صوت أو مجموعة أصوات تتكرر على مسافات متساوية (في نهايات الأبيات) تلفت انتباهنا جميعا.. لم يعد غريبا -إذن- أن نجد كل من يريد أن يكتب الشعر ينثر مجموعة من الكلمات على أوراقه، تنتهي بنهاية واحدة (القافية).. يصنع هذا فقط ويخرج علينا متباهيا، مترفعا، رافعا رأسه إلى السماء، متعاليا علينا، وكأنه امتلك العالم بأسره قائلا: "لقد أصبحت شاعرا".. لا يا صديقي.. لم تصبح، ولن تكون لأنك لم تفهم الإيقاع بعد، أو على وجه الدقة أنت لم تشعر به بعد.
ألم نتفق -يا صديقي- أن الإيقاع هو تكرار ظاهرة ما على مسافات متساوية؟ لقد صنعت التكرار نعم.. لكن هل كان هذا التكرار على مسافات متساوية؟ لا -يا صديقي- للأسف.. بالمناسبة أعرف بعضا ممن يريدون أن يكتبوا الشعر يتغلبون على هذه المشكلة بأنهم يجعلون الأسطر متساوية في الطول (على الورق) ليدعوا بأن القافية (الظاهرة الصوتية هنا) جاءت على مسافات متساوية.. لقد نسوا أننا نتعامل مع أصوات، وليس كلاما مكتوبا على ورق.
صديقي.. لكي نجعل المسافة متساوية بين القافيتين لابد أن يكون عدد الأصوات بينهما واحدا.. ليس فقط عددها، وإنما نوعها، وترتيبها، حتى نضمن أن القافية (الظاهرة الأبرز في الشعر العربي) ستتكرر بعد الزمن الذي ستستغرقه هذه الأصوات.
نحن الآن أمام مشكلة جديدة (زادت مشاكلنا.. ولكن لا تقلق.. كل مشاكلنا سنجد لها حلا معا).. مشكلتنا هي: كيف أحسب هذه الأصوات؟ وهل للأصوات أنواع؟ وما هذه الأنواع إذن؟
الأصوات في لغتنا، حسب الزمن الذي تستغرقه, نوعان؛ متحرك (/)، وساكن (o).. المتحرك مثل (بَ، بُ، بِ) أو كما كنت تقول في الحضانة: "باء فتحة بَ، باء ضمة بُ، باء كسرة بِ".. أما الساكن فمثل: (بْ).. لا تتعب نفسك فلن تستطيع أبدا أن تنطقه وحيدا، فلغتنا لا نستطيع أن نبدأ فيها بساكن أبدا، ولكي ننطقه لابد أن يكون مسبوقا بمتحرك.. ستقول: "إِبْ".
هذا يعني أننا -ظاهريا- أمام شكلين مختلفين هما المتحرك (/)، والساكن (o)، ولكن الحقيقة أننا فعلا أمام شكلين مختلفين أو وحدتين متباينتين، ولكنهما المتحرك (/)[1]، والمتحرك + الساكن (/o)[2]، ويبقى السؤال مطروحا؛ ما زمن كل وحدة منهما؟ وهنا نجيب بأن المتحرك (/) يأخذ نصف زمن المتحرك + الساكن (/o).
سنتخيل أننا أمام وحدة زمنية جديدة سننشئها نحن، ولنسمها الزمن[3]، فإذا ما اعتبرنا المتحرك + الساكن (/o) يساويان زمنا، فإن المتحرك (/) يساوي نصف زمن.
دع كل هذا، وتعال معي لنلعب هذه اللعبة.. اسحب طاولتك أمامك ودق عليها دق واحدة.. حاول الآن أن تنطق بالحروف ما يعبر عن هذه الدقة.. أسمعك تقول: (دُمْ)، أو (بِمْ)، أو (تِنْ).. انظر إلى ما كتبت.. ستجد أنها جميعا تشترك في شيء واحد، وهو أنها تتكون من متحرك، وساكن.. هذه تأخذ زمنا.
جرب الآن أن تدق على الطاولة دقتين سريعتين دون أي سكتة بينهما.. جرب أن تنطقهما.. مرة ثانية أسمعك تقول: (دُدُمْ)، أو (بِبِمْ)، أو (تِتِنْ).. وستلاحظ بالطبع -يا صديقي- أننا أمام متحركين ثم ساكن.. هل تستطيع أن تحسب زمن هاتين الدقتين؟ أنت صديق ممتاز.. الإجابة صحيحة.. إنهما يساويان زمنا ونصف الزمن، فعندنا متحرك يساوي نصف زمن، ومتحرك وساكن يساويان زمنا.
جرب معي أيضا أن تدق على طاولتك دقتين متتاليتين، لكن اترك بينهما سكتة صغيرة.. انطق ما فعلت الآن.. أسمعك تنطق: (دُمْ دُمْ)، أو (بِمْ بِمْ)، أو (تِنْ تِنْ)، وبالطبع ستقول إنهما يساويان زمنين.
والآن، ما الفارق بين هاتين الدقتين اللتين تفصل بينهما سكتة، والدقتين السابقتين المتتاليتين (دون سكتة)؟ إنها السكتة إذن.. السكتة التي شغلت هنا مكان الساكن الذي أضيف.. ألم تلاحظ أننا هنا أمام متحرك ثم ساكن ثم متحرك ثم ساكن؟ اعلم الآن -يا صديقي- أن كل متحرك يساوي دقة منك على الطاولة، وأن كل ساكن يساوي سكتة تساوي زمن المتحرك (نصف زمن).
واسمح لي الآن أن أعود إلى أسئلتي مجددا.. هل لاحظت الآن أننا لا يمكن أن نعبر عن الساكن وحده أبدا؟ كيف نعبر عنه وهو سكتة؟ ربما لاحظت ذلك، ولكن هل لاحظت أيضا أننا لا نعبر عن متحرك وحده؟ ألا تعلم لماذا؟ لأنك باختصار ستدق دقة على طاولتك للتعبير عنه، ولكنك ستسكت بعدها.. الآن عبرت عن الساكن أيضا، فكأنك ضربت على طاولتك (دُمْ) أو (تِنْ)، أي متحرك وساكن (دقة وسكتة).. يا صديقي، أنت كما بدأت بمتحرك لا بد أن تنتهي بساكن، فاعلم هذا ولا تنسَه مطلقا.
ولا نستطيع أن نعبر عن المتحرك (دون ساكن يليه) إلا إذا توالى متحركان أو أكثر.. هنا فقط تختفي السكتة بين الدقتين، فندرك أن هذا متحرك لا يليه ساكن.
من هنا تعال لنلعب معا هذه اللعبة.. اضرب طاولتك ضربة واحدة.. عندك الآن (دُمْ) أو (/o).. اضرب ضربتين سريعتين.. نعم.. (دُدُمْ) أو (//o).. والآن أضف ضربة أخرى.. اجعلها ثلاث ضربات متتالية.. (دُدُدُمْ) أو (///o).. وأخيرا اجعلها أربع ضربات.. هكذا.. (دُدُدُدُمْ) أو (////o).. لا تحاول أكثر من ذلك، فلن تستطيع.. أربع ضربات فقط تكفي.
هل تعلم أنك تعرفت الآن على الوحدات الإيقاعية الصغرى التي بنى عليها الخليل عروضه؟ نعم.. لقد عرفتها جميعا.. لا تصدقني؟! انظر معي لتتأكد.
(/): هذه حركة، وتساوي نصف زمن، ولا يمكن التعبير عنها بالإيقاع منفردة، لأنها ستبدو وكأنها متلوة بسكتة (ساكن)، وستلتبس مع (/o).
(o): هذا ساكن، ولا يعبر عنه أيضا لأنه عبارة عن سكتة تساوي نصف زمن أيضا.
(/o): متحرك وساكن، ويساويان زمنا كاملا، وقد سمّاهما الخليل (سبب خفيف)، ويعبر عنه بدقة على طاولتك (دُمْ).. دقة بعدها سكتة.
(//o): متحركان وساكن، وتساوي زمنا ونصف الزمن، وأطلق عليها الخليل (وتد مجموع)، ونستطيع التعبير عنه بدقتين متتاليتين (دُدُمْ).. دقتين تليهما سكتة.
(///o): ثلاثة متحركات وساكن، وتساوي زمنين، وأطلق عليها (فاصلة صغرى)، ونستطيع التعبير عنها بثلاث دقات متتالية (دُدُدُمْ).. ثلاث دقات تليها سكتة.
(////o): أربعة متحركات وساكن، وتساوي زمنين ونصف الزمن، وأطلق عليها (فاصلة كبرى)، ونستطيع التعبير عنها بأربع دقات متتالية (دُدُدُدُمْ).. أربع دقات تليها سكتة.
وحتى أكون صادقا معك، يجب أن أقول لك إنني تجاوزت وحدتين أخريين ذكرتهما كتب العروض جميعا.. الآن من حقك أن تعرفهما، وأن تعلم لماذا تجاوزتهما.. الوحدتان هما:
(//): متحركان، وأسماهما الخليل (سبب ثقيل)، ولم أذكره أنا لأن وجوده وحده مستحيل، فحتى تعبر عنه إيقاعيا ستجد نفسك مضطرا لضرب طاولتك ضربتين، ولكنك ستسكت بعد ذلك.. ألن يختلط ذلك بـ(//o)؟ هذا هو سبب تجاوزي يا صديقي.. والآن عندنا ما يعبر عن (السبب الثقيل) في وحداتنا الماضية.. ألا يمكن أن نقول مثلا إن الفاصلة الصغرى هي نتاج جمع السبب الثقيل (//)، والسبب الخفيف (/o).. (// + /o = ///o)؟ وهكذا..
(/o/): متحركان بينهما ساكن، وأطلق عليها (وتد مفروق)، وقد تجاوزت هذه الوحدة كذلك للسبب نفسه.. تذكر دوما يا صديقي أننا ننهي إيقاعنا بسكتة (ساكن).. لا تنسَ ذلك أبدا.
الآن من حقك أن تأخذ وقتا للراحة.. ولكن اجعل راحتك من خلال بعض الألعاب (التدريبات) البسيطة.
اللعبة
الأولى:
اسحب طاولتك
أمامك.. جرب أن تدق عليها ما يعبر عن الآتي:
- (/o)..
نعم (دُمْ).. كرر هذا مرتين.. ثلاث مرات.. اجعلها عشر مرات..
- (//o)..
نعم (دُدُمْ).. عشر مرات..
- (///o)..
نعم (دُدُدُمْ).. عشر مرات..
- (////o)..
نعم (دُدُدُدُمْ).. عشر مرات..
اللعبة
الثانية:
اختر وحدتين من
الوحدات السابقة وكررهما بالتبادل عشر مرات..
مثال: (/o) + //o)
(دُمْ + دُدُمْ)..
من حقك أن تسعد
الآن يا صديقي.. أنت الآن تعرف جيدا معنى الإيقاع.. تشعر به.. إنه
التكرار.. تكرار على مسافات متساوية.
تعليقات
إرسال تعليق