تمهيد

 
     من السهل –بل من السهل جدا- أن نحشو رأسك وأنت تدرس مادة العروض بعدد كبير من المصطلحات مثل الأسباب والأوتاد والزحافات والعلل وأسمائها المختلفة، لكن صدقني فأنت في النهاية لن تستطيع أبدا أن تشعر حقيقة بإيقاع الشعر العربي.
صديقي القارئ العزيز.. اعتبر هذا الكتاب بين يديك فضفضة بيني وبينك حول الإيقاع بشكل عام، وإيقاع الشعر بشكل خاص.. فضفضة أزعم بعدها أنك ستصل إلى ذلك الشعور الذي أقصده، الشعور الحقيقي بإيقاع الشعر العربي.. سنفضفض معا إذن، وسنحكي، وسنستمتع، وسنلعب أيضا.. لا تتعجب، فقد قرأت الكلمة بشكل صحيح.. نعم سنلعب، فاللعب هو أفضل وسيلة للتعلم، والمعرفة.. والشعور.


ما الإيقاع؟
 
الإيقاع.. كم مرة سمعت هذه الكلمة؟ سمعتها كثيرا بالطبع.. إيقاع الحياة أصبح سريعا.. إيقاع هذا المسلسل بطيء.. المشكلة في هذه المباراة أن إيقاعها ممل جدا.. الأحداث في هذه الرواية إيقاعها سريع جدا.. هذه اللوحة تتميز بإيقاع لافت.. سياقات عديدة تستخدم فيها هذه الكلمة، فهل فكرت في الرابط بينها جميعا؟ هل فكرت حقا في معنى هذه الكلمة التي ترددها كل يوم وربما كل ساعة؟
يقولون يا صديقي إن الإيقاع هو تكرار ظاهرة ما على مسافات متساوية (متجاوبة).. الخصيصة الرئيسة في الإيقاع -إذن- هي التكرار، ولكنه ليس تكرارا عشوائيا، وإنما هو تكرار على مسافات متساوية، أو تكاد أن تكون ذلك.
ولنجعل السؤال الآن: ما دام الأمر كذلك، فهل يستطيع كل منا أن يشعر بالإيقاع؟ الإجابة -يا صديقي- سنصنعها معا..
في الماضي كان هناك إحساس عند المصريين بأن هناك أربعة فصول متباينة في العام.. وإلا قل لي لماذا غنى فريد الأطرش: "آدي الربيع عاد من تاني"؟! كان الجميع يدرك أن هناك ظاهرة ما تحدث على مسافات متساوية طوال العام.. ومع أعوامنا الأخيرة اختل هذا الإيقاع تماما.. وتقلصت الفصول الأربعة، حتى إن البعض يقول الآن إننا لم يعد لدينا إلا فصلان فقط.. الشتاء والصيف.. الكل شعر -إذن- باختلال الإيقاع، أو بالأحرى، بذلك الإيقاع الجديد الذي نعيشه.
تعال معي لنضرب مثلا آخر.. اركب معي هذا القطار.. القطار يتحرك الآن.. إنه قطار رائع، والكرسي مريح فلا تكاد تشعر بهزة القطار وهو يتحرك.. ضع سماعات هاتفك في أذنك حتى لا تسمع صوت القطار.. انظر معي الآن من النافذة.. ما رأيك في أعمدة الإضاءة هذه التي تمر أمامنا؟ انظر إليها جيدا.. ستجد واحدا منها (الأعمدة) يمر أمامك على مسافة زمنية ثابتة.. ما هذا؟ لقد زادت هذه المسافة الزمنية فجأة.. شعرت بذلك بالتأكيد.. ما تفسيرك لهذا؟ لا تنسَ أنك لا تشعر بحركة القطار ولم تعد تسمع صوته.. رغم هذا أنت ستقول بلا شك إن سرعة القطار قد اختلفت، وإنه في طريقه إلى التوقف.
الشعور بالإيقاع موجود عند الجميع إذن، فلماذا لا نشعر جميعا بإيقاع الشعر؟ الإجابة تكمن في أننا لم نجد من يبرز لنا هذا الإيقاع ويشير إليه.. سنوات طويلة مرت عليك وأنت تدرس الشعر.. في المدرسة الابتدائية، ثم الإعدادية، وبعدها الثانوية، سنوات كثيرة تعاملت فيها مع ما عرّفوه لك على أنه شعر، وهو -في أغلب الأحيان- بريء من هذه الصفة، أو أنه في -في أحيان أخرى- مظلوم بشدة لأن من عرّفك عليه (أستاذك) لم يكن -أصلا- يعرفه حق المعرفة!
كم مرة -يا صديقي- تَوقف أستاذك معك عند الإيقاع الموجود في القصيدة التي تدرسها؟ لا أعني بالطبع تلك الثرثرة الفارغة (المثيرة لكره الشعر) عن الموسيقى الداخلية والموسيقى الخارجية وأهميتهما في النص.. صحيح -يا صديقي- أننا نشعر بالإيقاع -كما تحدثنا منذ قليل- لكننا بحاجة إلى من يكشف لنا عن تلك الظاهرة التي ستتكرر أمامنا على مسافات متساوية لنرصدها بأعيننا -أو بالأحرى بأذننا- ونشعر بها.

شاهد هذا الفيديو

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف تلعب العروض؟

الشعر العربي الحديث

من أعمال الطلاب