ما وراء الجدل
في
إحدى ليالي الشتاء كعادتي في كل أربعاء، قصدت أحد المقاهي الأدبية في "وسط
البلد"، فأنا شغوف بالشعر، والأدب، والفنون بشكل عام، وأجد متعتي فيها، آخذًا
بحوزتي أحد كتب علم النفس الخاصة بي -فأنا طبيب في علم النفس- الذي يحمل عنوان
"سيكلوچية الجماهير" للعالم الفرنسي "جوستاڤ لوبون". وأثناء
قراءتي الكتاب محتسيًا فنجان القهوة الخاص بي لفت انتباهي ثلاثة أشخاص يجلسون على
بعد طاولتين مني، يتجادلون حول أمر ما بجدية وانفعال شديدين، يكاد الجميع يسمع صوت
ضجيجهم من شدة حماسهم، وبينما أنا أراقبهم مختلسًا النظر من بعيد انتابني الفضول
حول معرفة ما يتناقش فيه هؤلاء الأشخاص فقررت المحاولة للانضمام إليهم لربما أفض
هذا الخلاف بينهم.
(يسير الطبيب
باتجاه الطاولة التي يجلسون عليها..)
وصل
الطبيب عند الطاولة مرددا التحية قائلا: طاب مساؤكم أيها الرفقاء..
فردوا
عليه: مرحبا بك طاب مساؤك أيضًا ..
قال
الطبيب بنبرة خافتة: عذرًا على مقاطعتي إياكم، ولكن هل يمكنني الانضام إليكم؟!
رد
عليه الرفقاء وتعلوهم نظرات التعجب والاستغراب: نعم يمكنك ذلك! ثم جلس الطبيب وقال: لعلكم تتساءلون الآن حول
سبب انضمامي إليكم رغم وجود طاولات تملأ المكان، لكني وجدتكم تتجادلون بصوت عال
جدا فلفتم انتباهي، فقلت في نفسي لربما أحاول فض هذا الخلاف.
(الرفقاء
وقد خيم الصمت عليهم محدقين بالرجل الجالس أمامهم..(
الطبيب:
حسنًا. سأعرفكم بنفسي أولًا: أدعى أنس، أبلغ من العمر خمسًا وثلاثين عامًا أعمل في
مجال الطب .
الرفقاء:
أهلًا وسهلا بك! ونحن (عمر وليلى وحاتم) في العشرينيات من أعمارنا ندرس في مجال
اللغة والآداب..
الطبيب:
أهلا بكم.. هلا أخبرتموني فيما كنتم تتجادلون!
رد
عمر بنبرة غاضبة: سأخبرك أنا لأنني أحق منهم، لقد كُلِّفنا بعمل بحث للجامعة عن
المدرسة الرومانسية في الشعر العربي الحديث فتبنى كلٌّ منا اتجاهًا مختلفًا عن
الآخر، ويصر كل منا بأنه الأفضل، لكني أنا الأفضل!
فرد كل
من حاتم وليلى وقال كل منهما بصراخ: لا بل أنا وليس أنت! تدخل الطبيب بسرعة ثم
قال: حسنًا حسنًا، فليهدأ الجميع، وليخبرني كل منكم برؤيته وسأكون حكمًا بينكم.
استحسن
الرفقاء الفكرة، ثم بدأ عمر بالحديث قائلا: لقد تبنيت اتجاه مدرسة الديوان التي تقول
إن الشاعر هو الذي يشعر بجوهر الأشياء، ويكشف لنا عن أصلها، وإن القصيدة كائن حي،
وركزوا على الوحدة العضوية التي تتمثل في وحدة الموضوع والجو النفسي للقصيدة، كما
استخدموا لغة العصر في كلامهم وتعبيرهم، ومن أهم خصائصهم: صدق العاطفة، وتأمل
الكون، والميل للطبيعة، ومزجها بالتعبيرات الإنسانية، والتحرر من الشكل القديم
بقدر ما استطاعوا.
استمع
الطبيب ثم قال: أحسنت صنعًا يا عمر، جميل حقًا ..
ثم
قالت ليلى باندفاع: هلا تركت لي المجال يا عمر!
فرد
عمر: بالطبع يا صديقتي تفضلي..
همت
ليلى بالحديث قائلة: أما أنا فقد اخترت مدرسة المهجر، فاسمها يوحي بالهجرة والسفر،
تكونت هذه المدرسة من مجموعة من الشعراء من الشام ولبنان خاصة، وتبنوا آنذاك فكرة
الترحال إلى الغرب تحديدا إلى "أمريكا"؛ بهدف تحسين أوضاعهم، ولقد
تأثروا بالغرب كثيرًا مما انعكس ذلك في كتاباتهم وأشعارهم؛ حيث تمردوا على الشكل
التقليدي للقصيدة واستعملوا ألفاظًا سلسة وسهلة وبسيطة، ودعوا إلى وحدة الموضوع،
وربطوه بعنوان القصيدة، واهتموا بكثرة الصور الفنية، وصدق التعبير، ومالوا إلى الطبيعة
والتعبير عن النفس الإنسانية والشوق والحنين للوطن.. ومثال ذلك قول ميخائيل نُعيمة:
تناثــــــــــري
تناثــــــــــــــــــــــــــري * يا بهجة النظر
يا
مرقص الشمس ويا * أرجوحة القمر
يا
أرغن الليل ويـــــــــــــــــــــــا * قيثارة السحر
يا
رمز فكر حائـــــــــــــــــــر * ورسم روح ثائر
استحسن
الطبيب كلام ليلى أيضا وأعجب به معلقًا: بدأت الحيرة تنتابني في اتخاذ قرار حول
خياراتكم تلك.
ساد
الصمت لحظات ثم قال عمر وليلى: هيا يا حاتم فلم يتبق غيرك!
رد
حاتم بكل ثقة: سنرى!
وبدأ
حاتم الحديث: أما أنا فقدت اخترت مدرسة أبوللو ولعلك تتساءل عن ماهية هذا الاسم
الغريب! ولكني سأخبرك، فقلقد تم اختيار هدا الاسم من قبل مؤسس تلك المدرسة الشاعر
أحمد زكي أبو شادي متغاضيا عن أجنبيته.. ووقع الاختيار عليه لكونه اسما عالميا
محبوبا له دلالات خاصة، فقد اهتمت هذه المدرسة بالإيمان بالتجربة الذاتية التي
يخوضها الشاعر وإلى الحنين والذكريات وتعلق وصفها بالطبيعة والميل للتجسيد والتشخيص
واستعمال الرمز والصور الجمالية وتنوع الموضوعات الشعرية في أشعارهم والتحرر من
وحدة الوزن والقافية، واستخدام الشعر المرسل.
نظر
الطبيب بهدوء ثم قال: أحسنت أيضا يا حاتم، ثم أوجز معلقا للجميع: لكل منكم اتجاه
مختلف عن الآخر مميز، له خصائصه وصفاته ونهجه الخاص، لذا لن يصلح أن أحكم بنظرة
عامة أو بالأحرى مطلقة في تفضيل اتجاه معين، ولكل منكم ذوقه ورؤيته الخاصة، ويجب
أن يتفهم كل منكم ذلك أيها الرفاق.. وتذكروا أن الاختلاف في الرأي أو الذوق لا
يفسد للود قضية.
ثم
رد الرفقاء الثلاثة: معك حق في جميع ما قلت أيها الطبيب العزيز.. شكرا لك كثيرا
على مشاركتك النقاش إيانا وعلى حكمتك اللطيفة.
رد
الطبيب بكل امتنان: بل أنا من شرفت بلقائكم وتعرفت عليكم وعلى معلومات مستفيضة
ومفيدة..
إعداد:
نسمة سامح محمد محمد حسن
تعليقات
إرسال تعليق