صباح شتوي



ذاتَ صباحٍ شتوي، في النصف الثاني من القرنِ العشرين، في أحد شوارع القاهرة، حافلةٌ متوجهةٌ إلى الجيزة، تتداخل الأصوات بين الزحام المروري في الخارج مع أصوات الركاب بداخل الحافلة، بعد انتهاء أغنية أم كلثوم على الراديو، أُذِيعَ حوارٌ مسجلٌ للعقاد يتحدث فيه عن المدارس الشعرية ساخرًا من إحيائيةِ شوقي مُنكرًا عليه أي جديد أضافه للشعر العربي.

انفعلت راكبةٌ وقالت:
وما الجديدُ الذي أتى به العقاد ليلقيَ باللوم على شوقي؟
عم الصمت الحافلة، ورد أحد الركاب في هدوءٍ مناصرًا العقاد، وهو يقول:
 
وماذا تعرفين عن العقاد؟
قالت السيدة:
العقاد؟ أتقصد  ذلك الذي أمضى حياته في نقد الآخرين على أن يأتيَ بجديدٍ في الشعر؟
فقال هو:
ربما لم تقرئي للعقاد، لقد فصل العقاد بين عهدين لا سبيلَ لاختلاطهما؛ فقد أتى بفكرة ربما لم ترد سابقًا في شعرنا العربي، وهي استنطاق ما لا ينطق، فيقول -مثلًا- في قصيدته "بيتٌ يتكلم":
جميع الناس سكاني *** فهل تدرون عنواني؟
وما للناس من سرٍ *** عدا آذان حيطاني
حديثي عجبٌ فيه *** خفايا الإنس والجان
فكم قضّيتُ أيامي *** بأفراحٍ وأحزاني
وكم آويتُ من بَرٍّ *** وكم آويتُ من جانِ
فإن أرضاكمُ سِرِّي *** فهاكم بعض إعلاني
سكتت السيدة قليلًا، ثم قالت ساخرةً: (بضحكة استهزاء)
ذكرتني بأبياتٍ قرأتها لابن سودون، كان قد قالها على سبيل الفكاهة، وهي:
الأرضُ أرضٌ والسماءُ سماءُ ** والبحرُ بحرٌ والهواءُ هواءُ
فكأننا والماءُ من حولنا ** قومٌ جُلُوسٌ حولهم ماءُ
غير أن العقاد كتب هذه الأبيات على سبيل الجد لا الهزل، فما الجديد إن قلت إن الناس يسكنون في البيت، ونحن نرى ذلك؟ ألم تكن من سمات الرومانسية التي حاول العقاد باستماتةٍ أن يبرزَها مهاجمًا الكلاسيكية فكرةُ الذاتية في الشعور؟ أين الذاتيةُ إذن في هذه القصيدة؟
فقال هو:
وما العيب في أن يرى العقادُ شعرًا في كل مكان؟ فكل شيء يمتزج بالحياة الإنسانية، ويُسهِم في شعور الكاتب، وبالتالي يُسهِم في ذاتية شعره ويؤثر عليها، فلو رأى العقادُ البيتَ يتكلم، فهذا لا ينفي بالضرورة ذاتية شعوره، وإنما يبرزها؛ فمن فيضِ مشاعره وموهبته استطاع أن يستنطق كل ما حوله ويكتب عنه مهتمًا حتى بشعور ما لا يشعر...
أثناء هذا المشهد، كانت قد توقفت الحافلة وصعدت فتاةٌ شابة تبدو مثقفةً، والكتبُ في يديها تجعل من مظهرها فتاة جامعية، في طريق عودتها ربما، استمعت لهذا الحوار، وبدأت تهتم به، حتى قررت التدخل قائلةً:
 
 
 
 
هل لي بمشاركتكم هذا الحديث؟ فهذا موضوع دراستي؛ فأنا أدرس في كلية الآداب، بقسم اللغة العربية، والشعر الحديث أحد مقرراتي هذا العام، وقرأت عنه ما يكفي لأتحدث عنه..
التفتا إليها باهتمام، وأبدى كلٌ منهما اهتمامه بما تقول، فأكملت الفتاة قائلةً:
 
سمعت ما قلتم، وأختلف في بعضه، وأتفق في بعض، فأنا أختلف معكِ - الراكبة الأولى (السيدة)– في رؤية القصيدة بنظرة جزئية تحاكم الكل بالجزء، وأتفق معكَ -الراكب الثاني- في أنه وإن لم يجدد العقاد على مستوى المعنى، فقد جدد على مستوى الفكر، فلم يجعل العقادُ البيتَ يتحدث فقط عن نفسه، وإنما جعله -أيضًا- يحس ويشعر بما يشعر به ساكنوه، ويشاركهم في الفرَح والحزن، وأظن هذا يطابق مفهوم الشعر عند الديوانيين.
قالت الفتاةُ هذا، والتفتت بوجهها إلى الراكب الثاني، وكأنها تنتظر تأكيدَ كلامها، وحدث ما كانت تنتظره منه، فقد بدت عليه أمارات الراحة والهدوء، فربما وجد من كلامها مناصرًا له، فلم يُضِع هذه الفرصة، وقال:
 
 
 
 
نعم، فمفهوم الشعر عند جماعة الديوان أن الشعر تعبير عن الحياة كما يسميها الشاعر من خلال وجدانه، فليس منه شعرُ المناسبات والمجاملات، ولا شعرُ الوصف الخالي من الشعور، ولا شعر الذين ينظرون إلى الخلف ويعيشون في ظلال القديم، ويعارضون القدماء عجزًا عن التجديد والابتكار، وإن نظرنا إلى القصيدة، نجدها مطابقة لهذا المفهوم...
فتقولُ السيدةُ مقاطعة له:
وأين ما يتناسب من القصيدة مع هذا المفهوم؟
يرد قائلًا:
لو انتظرتِ لسمعتِ؛ فهي تطابقه في كونها تعبيرًا عن الحياة كما يحسها الشاعر من خلال وجدانه، فالبيت من مظاهر الحياة المحيطة به، وإن صدقنا فهو لا يمكنه الاستغناء عنها، فما حول الشاعر من مجريات يُسهِم في شعره ويطبع على وجدانه، وبالإحالة على شعر المناسبات، فهي ليست منه، ولم يكتبها تكسبًا أو رغبةً في نَيلِ غاية محددة يصل إليها منها، وإن كانت القصيدة تصف البيت وتتحدث بلسانه فهي أيضًا لا تخلو من الشعور، غير أنها تعتبر طفرة تخرج على الموضوعات القديمة التي ربما تتسم بالجمود والتكرار، بل ولا تخلو فكرتها أيضًا من التجديد والابتكار.
فتقول السيدة:
أرى أن مفهوم الشعر عند المهجر أكثرُ اتساعًا منه عند الديوان، فمفهوم الشعر لا يمكن حصره، فالشعر هو غلبة النور على الظلمة، والحق على الباطل، ابتسامة الطفل، ودمعة الثكلى، جمال البقاء وبقاء الجمال، والحياة باكية وضاحكة.
هو:
ولكن عمومية الشيء واتساعه لهذه الدرجة لا تمنع انضمام ما ليس منه إليه، فإن لم يكن للمهجر مفهوم محدد للشعر، فهل لهم سمات محددة في التعبير عن وجدانهم بوصفهم مهجريين؟
السيدة:
بالطبع.. لهم سمات واضحة؛ فالنزعة التأملية طغت على الكثير من أشعارهم، ومن ذلك قول إيليا أبو ماضي:
قيل لي في الدير قومٌ أدركوا سرَّ الحياة
غير أنِّي لم أجد غير عقول آسنات
وقلوبٌ بليت فيها المنى فهي رفات
ما أنا أعمى فهل غيري أعمى؟ لستُ أدري
ولو تأملت هذه القصيدة تجد إيليا يتأمل في كل شيء تقريبًا، في سبيل بحثه عن مكنون الحياة، ولو نظرت في شعرهم -وشعرُهم كثير- تجد الحنين إلى الوطن، وتجد النظرة التفاؤلية، وتجد الإصلاح، والحق، ومحاولة نشر الخير قدر الإمكان.
فرد هو:
إن قلتِ إن موضوعات المهجر كثيرة صدقتِ، ولكن ما فائدة التنوع ما دام لا يضيف جديدًا، ويبنى كله على عنصر التكرار؟ وإن قلتِ إن مفهوم الشعر أوسع عند المهجر منه عند الديوان فأنا أرى أن أبولو استوفت شروط وسمات الرومانسية بشكل أعم، على مستوى التطبيق، وأظنها –مشيرًا إلى الطالبة الجامعية– تتفق معي في ذلك..
قالت الفتاة:
نعم، فعلى الرغم من أن أبولو لم يكن لها مفهوم محدد للشعر، فقد كانوا أكثر الشعراء الرومانسيين الذين التزموا بسمات مدرستهم على أغلب المستويات، فمثلًا على صعيد الطبيعة، كانت الطبيعة بارزة في معظم أشعارهم، حتى التي لا يُخيَّلُ إليك أنها قد ترتبط بها، كما فعل أبو القاسم الشابِّي في قصيدته السياسية "إلى طغاة العالم"، فقد قام بالربط في الصور بين الطبيعة في خدمة غرضه السياسي، فيقول:
ألا أيُّها الظالِمُ المستبدُّ *** حبيبُ الظلام عدو الحياة
سخرت بأنَّاتِ شعبٍ ضعيفٍ *** وكفك مخضوبة من دِمَاه
رُوَيْدَكَ! لا يَخْدَعنْكَ الربيعُ *** وصحو الفضاءِ وضوء الصباح
حذارِ! فتحت الرمادِ اللهيبُ *** وقصف الرعودِ وعصف الرياح
وإيمانًا منهم بعالمية الشعر، فقد حاولوا قدر إمكانهم إحلال الشعر مكانته السابقة الرفيعة، وتحقيق التآخي والتعاون المنشود بين الشعراء، وعلى ذلك فهدفهم الأكبر كان الخلاص من الحزبية.
فردت السيدة قائلةً:
تحدثتِ عن التطبيق، ولم تذكري -مع ذلك- سوى شاهد واحد على الطبيعة، فأين بقية سمات الرومانسية من التطبيق في أبولو؟!
همت الطالبة الجامعية بأن ترد على سؤالها، ولكن قاطعهم سائق الحافلة قائلًا:
قد وصلنا إلى قصر الثقافة، فهل يرغب أحدكم بالنزول؟
وكانت المصادفة، أنهم وعلى اختلافهم، كانوا يريدون المحطة ذاتها، فنزلوا جميعًا من الحافلة، وأكملوا حديثهم في الطريق، فمن منهم وُفّق في إبراز رؤيته أكثر يا تُرى؟!

 

                                                                                   انتهى..


إعداد الطلاب
أحمد ممدوح عويس محمد                                     آية رمضان أحمد الكومي
رضوى عبد السلام سلامة                                   زينب حسن سيد إسماعيل



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف تلعب العروض؟

الشعر العربي الحديث

من أعمال الطلاب