رؤية ورؤية
جلس الرُّفقاء الثلاثة
حول منضدة نائية قليلًا عن المقهى، لكنهم في الوقت نفسه يتأملون كل شيء حولهم،
ساكنًا كان أو متحركًا، نفيسًا كان أو زهيدًا... يتأملون في صمت لم يدم طويلًا؛
فقد أزال أحدهم ذلك الصمت بحديث جذب على الفور انتباه رفيقيه.
عباس العقـــــــــــــاد:
|
في البداية،
لن أقول: خليليَّ أو رفيقيَّ... إنها عادة بالية، لذا.. سأذهب إلى ما أرمي إليه
مباشرةً. أسستُ جماعة أدبية هدفها تحرير الشعر من قيوده التي آن الأوان أن
تنكسر، اليوم.. نعود بالشعر إلى أصله. الشعر جوهر الأشياء ينعكس على الوجدان،
فكل شيء حولنا مصدر إلهام بالشعر.
|
طَرِبَ
أحدهما لهذا الحديث وتهلل، وامتلك من الشجاعة ما تدفعه إلى التعبير عما يجول في
نفسه.
ميخائيل
نعيمة:
|
أوافقك الرأي تمامًا.
هذا هو شعر الحياة، الشعر وحي، الشعر إلهام، لنتخلص حقًّا من القيود، فيكون
الأديب في حِلٍّ من الخطأ؛ فالفن لا يتحمل قيدًا.. الفن تطور وتجديد وإبداع..
الفن والإبداع وجهان لعملة واحدة، والأديب الحق له أن يتصرف في اشتقاق مفردات
جديدة؛ لتناسب تطور الحياة، وله أن...
|
انتفض
(العقاد) وقاطعه قائلًا:
|
انتظر انتظر..
ماذا تقول؟! لم أكن لأقصد هذا على الإطلاق! أين قواعد اللغة إذن؟! أين أصولها؟!
|
ميخــــــائيل نُعَيْمة:
|
إن للأديب
غرضًا يرمي إليه، واللفظ من أدواته التي يستخدمها لتكون همزة وصل بينه وبين
المتلقي، فإذا تصرف الأديب بحرية -وإن أخطأ عامدًا- في هذا الاتجاه، واستطاع
اللفظ أن يؤدي المعني، وفَهِم المتلقي الغرض، فما الذي يمنع حركة التطور التي
أعنيها؟!
|
عباس العقـــــــــــــاد:
|
لا شك أن
التطور فريضة.. وفضيلة، بل إن الأديب من حقه أن يخطئ ولا ريب، ولكنَّ هذه الرخصة
لا تكون بهذا الاتساع، فنحن أمام لغة عريقة لها أصول وقواعد، والجدير ألا
نخالفها بالخطأ أو بغيره، إلا إذا أُحيط بالأديب فلم يجد مفرًّا من الخطأ؛ لأنه
أجمل من الصواب.
ولو كان الأمر
على هذا الاتساع، فالأولى أن يخطئ في الأوزان والقوافي التي رأيناها في الأدب العربي
كله!
|
ميخــــــائيل نُعَيْمة:
|
وما المانع؟!
ليس الموروث بمقدَّس. من السيئ أننا ما زلنا مقيَّدين بالخوف.. الخوف من الوقوع
في الخطأ.. الخوف من نظم شعر فاسد الإيقاع.. الخوف من مخالفة القافية الواحدة
إذا أردنا اختيار لفظة معينة، بل إننا نُتَّهَم بقصور معرفتنا باللغة إذا شكونا
هذا!
لقد صرنا نحيا
في هذا الخوف، حتى عجزنا عن التمييز بين ما هو شعر وما ليس بشعر. للشعر موسيقى
خاصة تكمن في وزنه، أما القافية الواحدة فقيد ثقيل جدًّا.
|
عباس العقـــــــــــــاد:
|
إننا
نتفق -تقريبًا- في كل شيء، لولا هذه المسألة.
|
ميخــــــائيل نُعَيْمة:
|
أجل. ولكن
دعني أشيد بما فعلته أنت وجماعتك الأدبية.. لقد كنا مشتتين؛ فرأينا من يذهبون
إلى تقليد الأدب الغربي تمامًا، كما رأينا من ذهبوا يحاكون أدبنا العربي القديم،
الذي لا نستطيع -ولا يمكن- أن ننكر فضله، فاستحضار التراث مهم، لكن المسألة
تتعلق بآلية استحضار هذا التراث.
ومن بين هذا
كله، وجدناكم تخرجون إلينا بحركة حقيقية تحافظ على هويتنا العربية، وتدعو إلى
التطوير من آخر نقطة وصل إليها أدبنا العربي.. فخرجتم بنا من الدائرة المغلقة
على المدح والهجاء والغزل والرثاء... لولا ما فعلتم لظلنا مشتتين إلى ما شاء
الله.
|
خرج
الرفيق الثالث عن صمته الطويل. لقد كان يتابعهما منذ البداية، حتى أثار كلامهما
في نفسه أسئلة عديدة، فما كان منه إلا أن يخرج عن صمته موجهًا حديثه إلى
(ميخائيل).
علي محمود طه:
|
لقد
قلت بأن هذه القيود جعلتنا لا نستطيع التمييز بين ما هو شعر وما ليس بشعر. ماذا
تقول في غاية الشعر؟
|
فبادر (العقاد) يقول ساخرًا:
|
تفضَّلْ.. أجب
عن السؤال...
|
ابتسم (ميخائيل) ثم قال:
|
غاية الشعر هي
الشعر.. الشاعر الحق هو المتحرر تمامًا من أغلال زمانه وأهل زمانه، فلا يقول ما
يروق لهم ويتحاشى ما يبغضونه. ولكن هذا لا يعني انعزاله التام عن واقعه.. إنه
يعبِّر برؤيته هو عن واقعه وحاجات مجتمعه.
|
علي محمود طه:
|
جيد. كأنك ترى
الشاعر كالنبي أو الرسول، لديه رسالة جاء بها ليُخرِج بها الناس من الظلمات إلى
النور.. تأمل وأحس، فرأى بعقله وقلبه وعينيه ما لم يروه، حتى جاء بالشعر ليجعله
بداية للإصلاح، ولا ريب أنه سيواجه اعتراضًا على رؤيته، على الرغم من أنها تمد
لهم يدًا للنجاة...
|
ميخــــــائيل نُعَيْمة:
|
أجل.. أجل،
هذا ما أقصده حقًّا!
|
حينها قال (العقاد) مخاطبًا (ميخائيل):
|
رؤيتك -إذًا-
تثير قضية مهمة: ماهية الشعر. أنت ترى أن الشعر كأنه نور يهدي الناس ويخرجهم من
الظلام -أي ظلام- إلى النور.. كأنه الحق الذي نهدم به كل باطل، وإن كان الباطل
هو الأعم الأغلب. أليس كذلك؟ ألست ترى هذا جوابًا لسؤال عن ماهية الشعر؟
|
ميخــــــائيل نُعَيْمة:
|
بلى، ولا شك.
ولكن الشعر -كما أرى- أوسع وأعمق؛ لهفة العاشق شعر.. ابتسامة الحياة وتجهمها
شعر.. صرخة البائس شعر. إن الشعر منا وإلينا، والأديب الحق يفهم هذا جيدًا،
فيجعل الشعر يتحرَّر من أي قيد؛ لتتحقق رسالته وتتجلى الحقيقة التي لا يراها
الجميع؛ بسبب الأغلال التي جعلتهم عموا وصموا عنها.
|
عباس العقـــــــــــــاد:
|
الشعر يعتمد
على الذهنية والفكر و...
|
وهنا تدخل (علي محمود طه) قائلًا:
|
ألم تتعلم من
أخطاء الكلاسيكيين؟!!
|
عباس العقـــــــــــــاد:
|
ماذا تقصد
بأخطاء الكلاسيكيين؟!
|
علي محمود طه:
|
إن
الكلاسيكيين عاشوا في زمان غير زمانهم، فصارت هناك فجوة بينهم وبين القراء،
وكذلك فعلتم، غلبتم الفكر على الوجدان فنفر الناس من شعركم.
ألم تعلموا أن
الناس متفاوتون في الفَهْم؟! ولماذا نغلب الذهنية من الأساس، أليس الشعر بتعبير
عن الوجدان؟!
|
عباس العقـــــــــــــاد:
|
ربما!!
|
علي محمود طه:
|
يبدو أنك لم
تقتنع يا صديقي.. فلتستمع إلى آخر قصيدة كتبتها:
أين من عينيَّ
هاتيك المجــــــالي
يا عروس البحر، يا حلم الخيالِ؟
أيــــــــــــن
عشاقك سُمَّار الليــــــالي
أين من واديك يا مهد الجـــــمالِ؟
موكب الغيد،
وعيد الكرنفـــــــــال
وسرى الجندول في عرض القنالِ
بين
كأس يشتهي الكرم خمرهْ
وحبيب
يتمنى الكـــــــــــأس ثغرهْ
التقت
عيني بـــــــــــــــــــــــه أول مرهْ
فعرفت
الحــــــــب من أول نظرهْ
|
ساد الصمت قليلًا.. ثم بادر علي محمود طه بالحديث
قائلًا:
|
على كل حال،
يبدو أن لكل واحد منا رؤية حقيقية لمحاولة النهوض بشعرنا العربي.. نبذنا جميعًا
المحاكاة، فابتعدنا عن الكلاسيكية التي أفل نجمها.. فمنا مَنْ بدأ المغامرة
متمردًا على قيود الشعر التي فرضها الكلاسيكيون، ولا شك أن أفكار المتمرد يصيبها
-في البداية- شيء من الخلل، قد يكون جمودًا خفيًّا أو جموحًا فائضًا.. وسرعان ما
يأتي من بعده من يُعالِج هذا الخلل رويدًا رويدًا، حتى تكاد الصورة تكتمل...
والحق
أننا جميعًا حاولنا ذلك، حتى استطعنا أن نصل -بفكر واعٍ بكل ما هو إنساني وبكل
ما هو عربي- إلى ما رأيناه في فِكْر (وولتر باتر) و(فيكتور هوجو) وغيرهما ممن
حاولوا تشجيع الأفكار الثورية في مقابل كل موروث يدفع الفرد إلى التقليد
والجمود.
|
انتهى..
إعداد
أحمد سعيد محمود عبد الجواد أحمد عبد الفتاح عبد الله محمد
محمود أيمن محمود عبد الوهاب
تعليقات
إرسال تعليق