على ضفاف النيل
بعد انتهاء أمسية شعرية رائعة جمعت شعراء من أقطاب الوطن
العربي، يجتمع أربعة من الأصدقاء على ضفاف النيل ثلاثة منهم شعراؤنا (عباس محمود
العقاد- ميخائيل نعيمة – أحمد زكي أبو شادي)، والرابع صديق لهم ليس شاعرًا ولكنه
مهتم بالشعر كثيرًا ودائم الحرص على حضور الندوات الشعرية.
أحمد زكي أبو شادي:
|
ما الدافع وراء حرصك على حضور أغلب الندوات الشعرية يا
صديقي رغم انشغالك؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
الصديق الرابع:
|
رغم أني لست شاعرًا، فإني أحب الشعر وأتذوقه، وأرى أنه
نهر لا ينضب من المشاعر الإنسانية بل يفيض بها دائمًا. هذا مفهومي البسيط عن الشعر، فما مفهوم الشعر
عند كل منكم؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
يجيبه العقاد:
|
أرى أن الشعر تعبير عن الحياة كما يحسها الشاعر من
خلال وجدانه، فليس من شعر المناسبات والمجاملات، ولا شعر الوصف الخالي من
الشعور، ولا شعر الذين ينظرون إلى الخلق ويعيشون في ظلاله القديم، ويعارضون
القدماء عجزًا عن التجديد والابتكار بينما الشعر الجيد هو ذلك الذي يقوله هؤلاء
الشبان الذين ينظرون إلى الأمام معبرين عن ذواتهم وعواطفهم، وما يسود عصرهم من
أحداث ومشكلات. والصدق في الشعر يتمثل في تعبير الشاعر عن عاطفته بغذاء من
حرارتها لا بوقود من خارجها.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
الصديق الرابع:
|
عظيم، لقد اتضح لي مفهومك عن الشعر، وماذا عنك يا سيد
ميخائيل؟
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
ميخائيل نعيمة:
|
كما تعلمون، فإن الإنسان عندما يضطهد من بيئته
الاجتماعية ويعاني منها فلابد له أن يبحث عن بيئة جديدة تمكن له عيشة مطلوبة يحس
فيها الأمن والراحة، وعند ذلك لا يجد منفذًا أمامه إلا الهجرة إلى زاوية من
زوايا الأرض، فهاجرنا ولم نعرف سبيلا للراحة التي كنا نصبوا إليها، وكل هذا
وأكثر جعلنا نحاول الفرار من واقعنا إلى الأدب وأخذ كل منا ينفس من خلال شعره
عما يعاني منه ويجول في نفسه محاولاً أن يجسد في كلماته وشعره قضايا أمته ووطنه
ويعبر عن أزماته ومحنته فإنا وإن كنا تركنا الوطن بأجسادنا ففيه أرواحنا
وقلوبنا.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
صمت × موسيقى
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||
ثم صمت قليلاً واعتدل في جلسته كأنه يلملم شتات نفسه،
ثم أخذ نفسًا طويلاً وقال:
|
رغم الألم سيظل الأمل...
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
أثنوا عليه جميعًا، فتبسم شاكرًا مكملاً حديثه:
|
لو تساءلنا عن الشعر بين عشاقه لوجدنا لكل منهم
منظورًا خاصًا، ولكن مع الاختلاف الظاهر في التعبير، نجد هذه الرؤى تدور حول
نقطتين جوهريتين، قسم منها ينظر إلى الشعر من جهة تركيبه وتنسيق عباراته وقوافيه
وأوزانه، والآخر يرى في الشعر قوة حيوية، قوة مبدعة، قوة مندفعة دائما إلى
الأمام بل هو كلاهما، فالشعر هو غلبة النور على الظلمة، والحق على الباطل، هو
ترنيمة البلبل ونوح الورق، وخرير الجدول وقصف الرعد، هو ابتسامة الطفل ودمعة
الثكلى، وتورد وجنة العذراء، وتجعد وجه الشيخ، هو جمال البقاء وبقاء الجمال، وهو
لذة التمتع بالحياة، والرعشة أمام وجه الموت، هو الحب والبغض، والنعيم والشقاء،
هو صرخة البائس وقهقهة السكران، ولهفة الضعيف، وعجب القوى، وهو ميل جارف وحنين
دائم إلى أرض لم نعرفها ولن نعرفها، هو انجذاب أبدي لمعانقة الكون بأسره
والاتحاد مع كل ما في الكون من جماد وبنات وحيوان، هو الذات الروحية تتمدد حتى
تلامس أطرافها أطراف الذات العالمية، وبالإجمال فالشعر هو الحياة باكية، وضاحكة،
وناطقة وصامتة، ومولولة ومهللة، وشاكية وسبحة، ومقبلة ومدبرة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
فعقب أحمد زكي أبو شادي:
|
وأنا أيضًا أؤمن بالجانب الوجداني، ولكن أراك قد همشت
الجانب الفكري.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
ميخائيل نعيمة:
|
بما أن الشعر هو حامل نسمة الحياة فإنه يقوم بالضرورة
على عنصر الإلهام كما يقود الخيال الذي يتسم بقدرته على الوصول إلى الحقيقة؛
لهذا آمنت بأن الخيال يتفوق على الحواس الأخرى التي تستخدم في البحث عن الحقيقة،
بل آمنت بسموه على العقل الذي يتفانى الناس في تكريمه مع أنه ليس سوى ولد جموح
يقوده الخيال من أنفه ولكن قلما يمشي به بعيدًا.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحمد زكي أبو شادي:
|
أما الشعر عندي فيرتفع إلى مستوى الفكر لأنه لا يقتصر
على العاطفة فقط، وإنما يزاوج بين العاطفة والفكر فما الإلهام سوى أثر الخبرة
والعرفان والمواهب في الفن ولا شأن له بأعجوبة ملكية أو شيطانية ولا بالوحي
المزعوم.
الشعر في رأيي هو تعبير الحنان بين الحواس والطبيعة هو
لغة الجاذبية وإن تنوع بيانها هو أوحدي الأصل في المنشأ والغاية وصفا وغزلاً
ومداعبة ورثاء ووعظا وقصصًا وتمثيلاً وفلسفة وتصويرًا، فإن مبعثه التفاعل بين
الحواس ومؤثرات الطبيعة، وغايته العزاء والاحتماء بهذه الطبيعة، وأن تضمن أحيانا
الغضب والسخط، وما هو إلا غضب الأطفال الصغار وقد يجوز أن نعرفه ماديًا بأنه
الجرافيك لنبض الحياة وسكونها كنظير المسجل لدقات القلب أو كدليل البيانو
الأوتوماتيكي تتحول سطوره المثقوبة إلى نغمات وكذلك الشعر يتحول في النفس إلى
صورة منشأة من عواطف وفلسفة.
وغاية الشعر عندي غرض نبيل بالدرجة الأساس، وحفاظًا
على تلك المنزلة السامية للشعر سعيت طوال حياتي لتحقيق التعاون لخدمة الشعر من
أجل الشعر فوق كل حزبية أو تيار متعصب.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
الصديق الرابع:
|
عظيم.. الآن اتضح لي مفهوم الشعر لدى كل منكم، وهذا
جعل آفاق عقلي تتفتح إلى أشياء أخرى أريد معرفتها، ولكن ألم تملون من الجلوس،
هيا بنا نستمتع بصفاء الجو ونسير معًا في شوارع القاهرة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
وبينما هم يسيرون وسط زحام المدينة بأضوائها البراقة،
وبساطة شعبها الجميل، وأصالة شوارعها العتيقة، تحدث العقاد وقال:
|
انظروا الشعر حولنا في كل مكان، نراه في البيت الذي
نسكنه، وفي الطريق الذي نعبره، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارات التي
أمامنا، نرى الشعر في كل شيء، فالشعر يمتزج في كل شيء في الحياة الإنسانية،
فالشعر في كل ما هو بسيط يومي أو معقد نادر.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
وأثناء سيرهم شاهدوا مقهى فجلسوا والتف حولهم الناس
واستقبلوهم بالترحاب وطلبوا منهم أن يلقوا على مسامعهم الشعر، فقدم الشعراء
العقاد ليلقي عليهم بعض أشعاره:
|
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
صفق الجمع وبعد ما أسمعهم العقاد الشعر توجه أحد
الحضور إلى أحمد زكي أبو شادي متسائلاً:
|
لقد سمعنا عن مجلتك "أبوللو" التي أنشأتها
فهل لك أن توضح لنا ما هدفها.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحمد زكي أبو شادي:
|
نظرًا للمنزلة الخاصة التي يحتلها الشعر بين فنون
الأدب، ولما أصابه وأصاب رجاله من سوء الحال، بينما الشعر من أجلّ مظاهر الفن،
لم نتردد في أن نخصه بهذه المجلة، التي هي الأولى من نوعها في العالم العربي،
كما لم نتوان في تأسيس هيئة مستقلة لخدمته، هي جمعية أبوللو، حبًا في إحلاله
مكانته السابقة الرفيعة، وتحقيقًا للتآخي والتعاون المنشود بين الشعراء، وقد
خلصت هذه المجلة من الحزبية، وتفتحت أبوابها لكل نصير لمبادئها التعاونية
الإصلاحية. وأكثر الأشياء التي نوليها الاهتمام النشر لصغار الشعراء ودعمهم
ليستمروا على هذا الطريق.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
فاحتج العقاد قائلاً:
|
عندي نقد لهذه التسمية، فقد عرف العرب والكلدانيون من
قبلهم، ربا للفنون والآداب أسموه عطارد، وجعلوا له يوما من أيام الأسبوع وهو يوم
الأربعاء، فلو أن المجلة سميت باسمه لكان ذلك أولى من جهات كثيرة، منها أن أبولو
عند اليونان غير مقصور على رعاية الشعر والأدب، بل فيه نصيب لرعاية الماشية
والزراعة، ومنها أن التسمية الشرقية مألوفة في آدابنا ومنسوبة إلينا، وكذلك أرى
أن المجلة التي ترصد لنشر الأدب العربي، والشعر العربي لا ينبغي أن يكون اسمها
شاهدًا على خلو المأثورات العربية من اسم صالح لمثل هذه المجلة.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
وعقب أحمد زكي أبو شادي على نقد العقاد قائلاً:
|
يا سيدي لقد استعرضت الجمعية أسماء عدة للمجلة قبل
اختيار اسم أبولو، ولم تنظر إليه بوصفه اسما أجنبياً، بل بوصفه اسما عالميا
محبوبا، وأنه لا انتقاص فيه للمأثورات العربية، كما أن النقل عن الكلدانيين ليس
أفضل من النقل عن الإغريق.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
فامتعض العقاد ولكنه كتم ما في صدره، ثم وجه سؤالاً
لأحمد زكي أبو شادي، وقال له:
|
ماذا تعني لك الموسيقى في الشعر؟ إن الوزن والقافية
يمثلان لي ضرورة من ضرورات الشعر ولوازمه.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
أحمد زكي أبو شادي:
|
إن الموسيقى في الشعر عنصر مهم، لكنها ليست بالعنصر
الأساسي لأن جوهر الشعر عندي هو التعبير عن إيقاع الحياة المتناوب والمتغير، وأرى
أن الدارسين والشعراء الذين يجعلون الموسيقى أهم عنصر من عناصر بنية القصيدة
بدائيون لأن الأذهان المثقفة يمكن أن تأسرها صورة في القصيدة من دون الحاجة إلى
عنصر الموسيقى، ولكن ما تعيبه هو عبودية الشعر للموسيقى حيثما ينبغي أن تكون
للشعر سيادته، فبدل استهواء المشاعر بالأوزان والقوافي الرتيبة وحدها، نرى أن
الشعر جدير بأن تكون له ذاتيته المستقلة الجميلة المؤثرة، وأن يكون الاستهواء
والتأثير الوجداني منه ذاتيًا، أي من إيحاء المعاني ومن روعة الخيال، لا من
الموسيقى اللفظية أولاً وأخيرًا.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
وتدخل ميخائيل نعيمة معقبًا:
|
فلا الأوزان ولا القوافي من ضروريات الشعر، فرب عبارة
نارية جميلة التنسيق موسيقية الرنة، كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من
مائة بيت، وأنا لا أنكر أهمية الوزن لكني أرى أنه يلي عنصر الوجدان والعاطفة،
فالشعر عندي شكل ومضمون.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
فلاحظ الصديق الرابع أن الموقف أصبح متوترًا فيما
بينهم فقال:
|
إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ولابد لنا من
تدعيم ثقافة الاختلاف، فمهما تباينت الآراء فكل منا لديه فكرته التي يؤمن بها
ويدعمها ولكن الاتفاق الأكبر يجب أن ينصب حول قضية واحدة وهي الشعر، كلكم قد
أضاف للأدب العربي عامة وللشعر خاصة، وكلكم علم من أعلامه، وكل جهودكم المبذولة
تنصهر في بوتقة واحدة فكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
وتصافح الأربعة وذهب كل منهم إلى حال سبيله، بينما
يعلو الغناء:
|
انتهى..
إعــــــــداد
اعتماد فتحي محمد إبراهيم منى جمال عبد الرحيم سيد
نفين حاتم عبد الله أمين
هايل 👏👏👏
ردحذفثانكس 🌸
حذفهايل 👏👏👏
ردحذف